سُورَةُ
التَّوْبَةِ
أ.
تعريف
السورة التوبة و سبب تسميتها[1]
مدنية إلا الآيتين الأخيرتين فمكيتان وآياتها
129 نزلت بعد المائدة سورة التوبة قال صاحب «الكشاف» : لها عدة أسماء: براءة،
والتوبة والمقشقشة، والمبعثرة، والمشردة، والمخزية، والفاضحة، والمثيرة، والحافرة،
والمنكلة، والمدمدمة، وسورة العذاب.
قال لأنّ فيها التوبة على المؤمنين، وهي تقشقش
من النفاق أي تبرئ منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين، وتبحث عنها، وتثيرها. وتحفر
عنها، وتفضحهم، وتنكل بهم، وتشردهم وتخزيهم، وتدمدم عليهم.
وعن حذيفة: إنكم تسمونها سورة التوبة، واللَّه
ما تركت أحدا إلا نالت منه. وعن ابن عباس في هذه السورة قال: إنها الفاضحة ما زالت
تنزل فيهم وتنال منهم ، وسورة الأنفال نزلت في بدر، وسورة الحشر نزلت في بني
النضير.
ب. أسباب النزول
بَرَاءَةٌ
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ
مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)[2]
- وقد اختلف أهل التأويل فيمن بَرِئَ الله
ورسوله إليه من العهد الذي كان بينه وبين رسول الله من المشركين، فأذن له في
السياحة في الأرض أربعة أشهر.
-فقال بعضهم: هم صنفان من المشركين: أحدهما كانت مدة العهد بينه وبين
رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلَّ من أربعة أشهر، وأمْهِل بالسياحة أربعة أشهر =
والآخر منهما: كانت مدة عهده بغير أجل محدود، فقُصِر به على أربعة أشهر ليرتاد
لنفسه، ثم هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين، يقتل حيثما أدرك ويؤسَرُ، إلا أن
يتوب.
*
ذكر من قال ذلك:
- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، بعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضى الله عنه أميرًا على الحاجّ من سنة تسع،
ليقيم للناس حجهم، والناسُ من أهل الشرك على منازلهم من حجهم. فخرج أبو بكر ومن
معه من المسلمين، ونزلت "سورة براءة" في نقض ما بين رسول الله صلى الله
عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم: أن لا
يُصَدَّ عن البيت أحد جاءه، وأن لا يُخَاف أحد في الشهر الحرام. وكان ذلك عهدًا
عامًّا بينه وبين الناس من أهل الشرك. وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب
خصائصَ إلى أجل مسمًّى، فنزلت فيه وفيمن
تخلف عنه من المنافقين في تبوك، وفي قول من قال منهم، فكشف الله فيها سرائر أقوام
كانوا يستخفون بغير ما يظهرون، منهم من سُمِّي لنا، ومنهم من لم يُسَمَّ لنا،
فقال: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) ، أي: لأهل العهد
العام من أهل الشرك من العرب = (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، إلى قوله: (أن الله
بريء من المشركين ورسوله) ، أي: بعد هذه الحجة.
حدثني
محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس،
قال: لما نزلت (براءة من الله) ، إلى: (وأن الله مخزي الكافرين) ، يقول: براءة من
المشركين الذين كان لهم عهد يوم نزلت "براءة"، فجعل مدة من كان له عهد
قبل أن تنزل "براءة"، أربعة أشهر، وأمرهم أن يسيحوا في الأرض أربعة
أشهر. وجعل مدة المشركين الذين لم يكن لهم عهد قبل أن تنزل "براءة"،
انسلاخ الأشهر الحرم، وانسلاخ الأشهر الحرم من يوم أذن ببراءة إلى انسلاخ المحرّم،
وهي خمسون ليلة: عشرون من ذي الحجة، وثلاثون من المحرم = (فإذا انسلخ الأشهر
الحرم) إلى قوله: (واقعدوا لهم كل مرصد) ، يقول: لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا
ذمة منذ نزلت "براءة" وانسلخ الأشهر الحرم، ومدة من كان له عهد من
المشركين قبل أن تنزل "براءة"، أربعة أشهر من يوم أذّن ببراءة، إلى عشر
من أول ربيع الآخر، فذلك أربعة أشهر.
وَأَوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ
وَهَمَّ بِالْحَجِّ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَحْضُرُونَ عَامَهُمْ
هَذَا الْمَوْسِمَ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ
يطوفون بالبيت عراة، فكره
مخالطتهم وبعث أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمِيرًا على الحج
تلك السنة ليقيم للناس مناسكهم ويعلم المشركين أن لا يَحُجُّوا بَعْدَ عَامِهِمْ
هَذَا، وَأَنْ يُنَادِيَ فِي الناس بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَمَّا
قَفَلَ أَتْبَعُهُ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِيَكُونَ مُبَلِّغًا عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِهِ عُصْبَةً لَهُ[3].
ج. العلاقة بما قبله[4]
, فَإِنْ قِيلَ: مَا السَّبَبُ فِي إِسْقَاطِ التَّسْمِيَةِ مِنْ
أَوَّلِهَا؟
قُلْنَا: ذَكَرُوا
فِيهِ وُجُوهًا:
الْوَجْهُ
الْأَوَّلُ:
رُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ
عَمَدْتُمْ إِلَى سُورَةِ بَرَاءَةَ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ، وَإِلَى سُورَةِ
الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا وَمَا فَصَلْتُمْ
بِبِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟
فَقَالَ: كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةٌ
يَقُولُ: «ضَعُوهَا فِي مَوْضِعِ/ كَذَا» وَكَانَتْ بَرَاءَةُ مِنْ آخِرِ
الْقُرْآنِ نُزُولًا. فَتُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ
يُبَيِّنْ مَوْضِعَهَا، وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا فَقُرِنَ
بَيْنَهُمَا.
قَالَ الْقَاضِي :
إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُبَيِّنْ كَوْنَ هَذِهِ السُّورَةِ تَالِيَةً
لِسُورَةِ الْأَنْفَالِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُرَتَّبٌ مِنْ قِبَلِ اللَّه
تَعَالَى وَمِنْ قِبَلِ رَسُولِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي نُقِلَ، وَلَوْ
جَوَّزْنَا فِي بَعْضِ السُّوَرِ أَنْ لَا يَكُونَ تَرْتِيبُهَا مِنَ اللَّه عَلَى
سَبِيلِ الْوَحْيِ، لَجَوَّزْنَا مِثْلَهُ في سائر السور وفي آيات السور
الْوَاحِدَةِ، وَتَجْوِيزُهُ يُطَرِّفُ مَا يَقُولُهُ الْإِمَامِيَّةُ مِنْ
تَجْوِيزِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي الْقُرْآنِ. وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ مِنْ
كَوْنِهِ حُجَّةً، بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ بِوَضْعِ
هَذِهِ السُّورَةِ، بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَحْيًا، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ حَذَفَ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ
السُّورَةِ وَحْيًا.
الْوَجْهُ
الثَّانِي: فِي هَذَا الْبَابِ مَا يُرْوَى عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ
قَالَ: إِنَّمَا تَوَهَّمُوا ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي الْأَنْفَالِ ذِكْرَ الْعُهُودِ،
وَفِي بَرَاءَةَ نَبْذَ الْعُهُودِ. فَوُضِعَتْ إِحْدَاهُمَا بجنب الأخرى والسؤال
المذكور عائد هاهنا، لِأَنَّ هَذَا الْوَجْهَ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا قُلْنَا
إِنَّهُمْ إِنَّمَا وَضَعُوا هَذِهِ السُّورَةَ بَعْدَ الْأَنْفَالِ مِنْ قِبَلِ
أَنْفُسِهِمْ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ.
وَالْوَجْهُ
الثَّالِثُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ سُورَةَ الْأَنْفَالِ
وَسُورَةَ التَّوْبَةِ سُورَةٌ وَاحِدَةٌ أَمْ سُورَتَانِ؟ فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: هُمَا
سُورَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ كِلْتَيْهِمَا نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ
وَمَجْمُوعُهُمَا هَذِهِ السُّورَةُ السَّابِعَةُ مِنَ الطِّوَالِ وَهِيَ سَبْعٌ،
وَمَا بَعْدَهَا الْمِئُونَ. وَهَذَا قَوْلٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُمَا مَعًا
مِائَتَانِ وَسِتُّ آيَاتٍ، فَهُمَا بِمَنْزِلَةِ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُمَا سُورَتَانِ،
فَلَمَّا ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا الْبَابِ تَرَكُوا
بَيْنَهُمَا فُرْجَةً تَنْبِيهًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ هُمَا سُورَتَانِ،
وَمَا كَتَبُوا بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَيْنَهُمَا تَنْبِيهًا
عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ هُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا
يَلْزَمُنَا تَجْوِيزُ مَذْهَبِ الْإِمَامِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا
وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَقْطَعُوا
بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَعَمِلُوا عَمَلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا
الِاشْتِبَاهَ كَانَ حَاصِلًا، فَلَمَّا لَمْ يَتَسَامَحُوا بِهَذَا الْقَدْرِ
مِنَ الشُّبْهَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُشَدِّدِينَ فِي ضَبْطِ
الْقُرْآنِ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ
الْإِمَامِيَّةِ.
الْوَجْهُ
الرَّابِعُ: فِي هَذَا الْبَابِ: أَنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ سُورَةَ الْأَنْفَالِ
بِإِيجَابِ أَنْ يُوَالِيَ الْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَأَنْ يَكُونُوا
مُنْقَطِعِينَ عَنِ الْكُفَّارِ بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ
بِهَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:1]
فَلَمَّا كَانَ هَذَا عَيْنَ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَتَأْكِيدًا لَهُ وَتَقْرِيرًا
لَهُ، لَزِمَ وُقُوعُ الْفَاصِلِ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ إِيقَاعُ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا
تَنْبِيهًا عَلَى كَوْنِهِمَا سُورَتَيْنِ مُتَغَايِرَتَيْنِ، وَتُرِكَ كَتْبُ
بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَيْنَهُمَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذَا
الْمَعْنَى هُوَ عَيْنُ ذَلِكَ الْمَعْنَى.
الْوَجْهُ
الْخَامِسُ:
قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: سَأَلْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لِمَ لَمْ يُكْتَبْ بِسْمِ
اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَيْنَهُمَا؟
قَالَ: لِأَنَّ
بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَانٌ، وَهَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ
بِالسَّيْفِ وَنَبْذِ الْعُهُودِ/ وَلَيْسَ فِيهَا أَمَانٌ.
وَيُرْوَى أَنَّ
سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى، وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً
[النِّسَاءِ: 94] فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْحَرْبِ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ. فَأَجَابَ عَنْهُ: بِأَنَّ ذَلِكَ ابْتِدَاءٌ مِنْهُ بِدَعْوَتِهِمْ
إِلَى اللَّه، وَلَمْ يَنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ. أَلَا تَرَاهُ قَالَ فِي
آخِرِ الْكِتَابِ: «وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى»
وَأَمَّا فِي
هَذِهِ السُّورَةِ فَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى الْمُقَاتَلَةِ وَنَبْذِ الْعُهُودِ
فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
وَالْوَجْهُ
السَّادِسُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَعَلَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ مِنْ
بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَتَنَازَعُونَ فِي كَوْنِ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ مِنَ الْقُرْآنِ، أمر بأن لا تكتب هاهنا، تَنْبِيهًا عَلَى كَوْنِهَا
آيَةً مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، وَأَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَكُنْ آيَةً مِنْ
هَذِهِ السُّورَةِ، لَا جَرَمَ لَمْ تُكْتَبْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا
لَمَّا كُتِبَتْ فِي أَوَّلِ سَائِرِ السُّوَرِ وَجَبَ كَوْنُهَا آيَةً مِنْ كُلِّ
سورة.
د. المناسبة بما قبلها :
ولقد ورد ذكر كلمة "التوبة" في هذه
السورة 17 مرة أكثر من سورة أخرى فى القرآن كله. فقد وردت فى البقرة "13
مرة" ، النساء "12 مرة" ، المائدة "5 مرات"
ه. فضيلة: قال الامام الصادق : من قرأ
سورة الانفال و سورة التوبة فى كل شهر لم يدخله نفاق أبدا[5].
السيرة
لابن عباس :
عبد
الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، صحابي جليل، وابن عم التبي محمد، حبر الأمة
وفقيهها وإمام التفسير وترجمان القرآن، ولد ببني هاشم قبل الهجرة بثلاثة سنين،
وكان النبي محمد دائم الدعاء لابن عباس
فدعا أن يملأ الله جوفه علما وأن يجعله صالحا. وكان يدنية منه وهو طفل ويربت على
كتفه وهو يقول : " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل "
أهله:
زوجته
هي – شميلة بنت أبي حناءه أبي أزيهر بن أنيس بن الخيسق بن مالك بن سعد بن كعب بن
الحارث بن عبد الله بن عامر بن بكر بن يشكر بن مبشر بن صعب بن دهمان بن نص بن
زهران .
صفاته
:
كان
ابن عباس يتملك الي جانب ذاكرته القوية، ذكاه نافذا، وفطنة بالغةزز كانت حجته كضوء
الشمس ألقا، ووضوحا، وبهجة. وهو في حواره ومنطقه، لا يتك خصمه مفعما بالاقتناع
وحسب ، بل ومفعما بالغبطة من روعة المنطق وفطنة الحوار..ومع غزارة علمه، ونفاذ حجته، لم يكن يري في الحوار والمناقشة
معركة ذكاء،يزهو فيها بعلمه، ثم بانتصاره علي خصمه،بل كان يراها سبيلا قويما لرؤية
الصواب ومعرفته... لطالما روعّ الخوارج بمنطقة الصارم العادل.
علمه
ومجالسه :
·
لغزراة
علم ابن عباس الصحابي الجليل، لقب بالبحر اذ أنه لم يتعود أن يسكت عن أمر سئل عنه،
فان كانالامر في القرآن أخبر به، وان لم يكن في القرآن وكان عن رسول الله أخبر به،
فان كان من سيرة أحد الصحابة أخبر به، فان لم يكن في شيء من هؤلاء قدم رأيه فيه،
ومن شدة اتقانه فقد قرأ سورة البقرة وفسرها أية أية وحرفا حرفا. لشدة ايمانه أنه
لما وقع في عينه الماء أراد أن يتعالج منه فقيل له : إنك تمثك كذا وكذا يوما لا
صلي إلا مضطجعا فكه ذالك.
·
وقد
قال : سلوني عن التفسير فإن بي وهب لي لسانا سؤولا وقلبا عقلولا. سئل ابن عباس
يوما : " أني أصبت هذا العلم ؟"، فأجاب :" بلسان سؤول وقلب
عقول"، فبلسانه المتسائل دواما، وبعقله الفاحص أبدا، ثم بتواضعه ودماثة خلقه،
صار ابن عباس حبر هذه الأمة.
أخلاقه :
لم يكن ابن عباس
يتملك هذه الثورة الكبري من العلم فحسب. بل كان يتملك معها ثورة أكبر، من أخلاق
العلم وأخلاق العلماء. وهو في جوده وسخائه إمام وعالم. انه ليفيض علي الناس من
ماله، بنفس السماح الذي يفيض به عليهم. ولقد كان معاصروه يتحدثون عنه فيقولون :
" ما رأينا بيتا أكثر طعاما ولا شابا ولا فاكهة لا يحمل لأحد ضغنا ولا غلا.
وهوايته التي لا يشبع منها ، هي تمنيه الخير لكل من يعف ومن لا يعرف من الناس.
وفاته :
توفي حب هه الأمة
الصحابي عبد الله ابن عباس سنة 68 بالطائف، وهو ابن إحدي وثمانين سنة. وقد نزل في
قبره وتولي دفنه علي بن عبد الله بن العباس ومحمد بن الحنيفة، والعباس بن محمد بن
عبد الله بن العباس و صفوان، وكريب، عن سعيد بن جبير ، قال : مات ابن عباس بالطائف
فشهدنا جنازته، فجاء طائر لم يكن على خلقته حتي دخل في نعشه، ثم لم ي خارجا منه،
فلما دفن تليت هذه الآية لم يد من تالاها: " يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي
إلى بك راضية مرضية فادخلي في عباده وادخلي جنتي.
و. التفسير التحللي :
تفسير سورة التوبة 1-4
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ
مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
1. تفسير الأية تفصيليا
معنى
البراءة انقطاع العصمة . يقال : برئت من فلان أبرأ براءة ، ومن هنا يقال برئت من الدين
، وفي رفع قوله : { بَرَاءةٌ } قولان : الأول : أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذه براءة
. وقوله : { مِّنَ } لابتداء الغاية ، والمعنى : هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى
الذين عاهدتم ، كما تقول كتاب من فلان إلى فلان . الثاني : أن يكون قوله : { بَرَاءةٌ
} مبتدأ وقوله : { مّنَ الله وَرَسُولِهِ } صفتها وقوله : { إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ
} هو الخبر كما تقول رجل من بني تميم في الدار .[6]
{
إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مّنَ المشركين } وقرىء بنصبها ، والمعنى : أن الله ورسوله
برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين ، وإنما علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة
بالمسلمين للدلالة على أنه يجب عليهم نبذ عهود المشركين إليهم وإن كانت صادرة بإذن
الله تعالى واتفاق الرسول فإنهما برئا منها ، وذلك أنهم عاهدوا مشركي العرب فنكثوا
إلا أناساً منهم بنو ضمرة وبنو كنانة فأمرهم بنبذ العهد إلى الناكثين وأمهل المشركين
أربعة أشهر ليسيروا أين شاءوا فقال : { فَسِيحُواْ فِى الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
} شوال وذي القعدة وذي الحجة والمحرم لأنها نزلت في شوال . وقيل هي عشرون من ذي الحجة
والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر لأن التبليغ كان يوم النحر.
اختلف
المفسرون ها هنا اختلافا كثيرا، فقال قائلون: هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة،
أو من له عهد دون أربعة أشهر، فيكمل له أربعة أشهر، فأما من كان له عهد مؤقَّت فأجله
إلى مدته، مهما كان؛ لقوله تعالى: { فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [التوبة:4] ولما سيأتي في الحديث: "ومن
كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته".
2. المستفادة من الأية
فإن
قالوا : ما السبب في أن نسب البراءة إلى الله ورسوله ، ونسب المعاهدة إلى المشركين؟
قلنا
قد أذن الله في معاهدة المشركين ، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعاهدهم ثم إن المشركين نقضوا العهد فأوجب الله النبذ إليهم ، فخوطب المسلمون بما يحذرهم
من ذلك ، وقيل اعلموا أن الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم من المشركين .[7]
3. الحكم الذي وجد في الأية
روي
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف النافقون وأرجفوا بالأراجيف
، جعل المشركون ينقضون العهد ، فنبذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العهد إليهم .
فإن
قيل : كيف يجوز أن ينقض النبي صلى الله عليه وسلم العهد؟قلنا : لا يجوز أن ينقض العهد
إلا على ثلاثة أوجه : أحدها : أن يظهر له منهم خيانة مستورة ويخاف ضررهم فينبذ العهد
إليهم ، حتى يستووا في معرفة نقض العهد لقوله : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً
فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَاء } [ الأنفال : 58 ] وقال أيضاً : { الذين . . . . . يَنقُضُونَ
عَهْدَهُمْ فِي كُلّ مَرَّةٍ } [ الأنفال : 56 ] والثاني : أن يكون قد شرط لبعضهم في
وقت العهد أن يقرهم على العهد فيما ذكر من المدة إلى أن يأمر الله تعالى بقطعه . فلما
أمره الله تعالى بقطع العهد بينهم قطع لأجل الشرط . والثالث : أن يكون مؤجلاً فتنقضي
المدة وينقضي العهد ويكون الغرض من إظهار هذه البراءة أن يظهر لهم أنه لا يعود إلى
العهد ، وأنه على عزم المحاربة والمقاتلة ، فأما فيما وراء هذه الأحوال الثلاثة لا
يجوز نقض العهد البتة ، لأنه يجري مجرى الغدر وخلف القول ، والله ورسوله منه بريئان
، ولهذا المعنى قال الله تعالى : { إِلاَّ الذين عاهدتم مّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ
شَيْئاً وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى
مُدَّتِهِمْ } [ التوبة : 4 ] وقيل : إن أكثر المشركين نقضوا العهد إلا أناساً منهم
وهم بنو ضمرة وبنو كنانة .[8]
وَأَذَانٌ
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ
بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ
تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
1. تفسير الأية تفصيليا
{ وَأَذَانٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس } أي إعلام فعال بمعنى
الإِفعال كالأمان والعطاء ، ورفعه كرفع { بَرَاءةٌ } على الوجهين . { يَوْمَ الحج الأكبر
} يوم العيد لأن فيه تمام الحج معظم أفعاله ، ولأن الإِعلام كان فيه ولما روي أنه صلى
الله عليه وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال « هذا يوم الحج الأكبر
» وقيل يوم عرفة لقوله صلى الله عليه وسلم « الحج عرفة » ووصف الحج بالأكبر لأن العمرة
تسمى الحج الأصغر ، أو لأن المراد بالحج ما يقع في ذلك اليوم من أعماله فإنه أكبر من
باقي الأعمال ، أو لأن ذلك الحج اجتمع فيه المسلمون والمشركون ووافق عيده أعياد أهل
الكتاب ، أو لأنه ظهر فيه عز المسلمين وذل المشركين . { إِنَّ الله } أي بأن الله
. { بَرِىء مّنَ المشركين } أي من عهودهم . { وَرَسُولُهُ } عطف على المستكن في { بَرِىء
} ، أو على محل { إِن } واسمها ، وقرىء بالنصب عطفاً على اسم إن أو لأن الواو بمعنى
مع ولا تكرير فيه ، فإن قوله { بَرَاءةٌ مّنَ الله } إخبار بثبوت البراءة. { فَإِن
تُبْتُمْ } من الكفر والغدر . { فَهُوَ } فالتوب { خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ
} عن التوبة أو تبتم على التولي عن الإسلام والوفاء . { فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى
الله } لا تفوتونه طلباً ولا تعجزونه هرباً في الدنيا . { وَبَشّرِ الذين كَفَرُواْ
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } في الآخرة .[9]
ثم
قال : { وَبَشّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } في الآخرة لكي لا يظن أن عذاب
الدنيا لما فات وزال ، فقد تخلص عن العذاب ، بل العذاب الشديد معد له يوم القيامة
2.
الاستفادة
من الأية
يقول
تعالى: { يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ } وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها
وأكثرها جمعا (2) { أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } أي: بريء
منهم أيضا.
التوبة من الكفر والغدر خير للمشركين.
3.
الحكم
الذي وجد في الأية
قال
البخاري، رحمه الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث، حدثني عَقيل، عن ابن شهاب
قال: أخبرني حُمَيد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكر، رضي الله عنه،
في تلك الحَجَّة في المُؤذِّنين، بعثهم يوم (1) النحر، يُؤذِّنون بمنى: ألا يحج بعد
العام مشرك، ولا يطوف (2) بالبيت عريان. قال حميد: ثم أردف النبيُّ صلى الله عليه وسلم
بعلي بن أبي طالب، فأمره أن يُؤَذِّن ببراءة. قال أبو هريرة: فأذَّنَ معنا عليٌّ في
أهل منى يوم النحر ببراءة وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان (3)[10]
إِلَّا
الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ
يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
1.
تفسير
الأية تفصيليا
{ إِلاَّ الذين عاهدتم مّنَ المشركين } استثناء من المشركين ، أو استدراك
فكأنه قيل لهم بعد أن أمروا بنبذ العهد إلى الناكثين ولكن الذين عاهدوا منهم . { ثُمَّ
لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } من شروط العهد ولم ينكثوه أو لم يقتلوا منكم ولم يضروكم
قط . { وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَداً } من أعدائكم { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ
عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ } إلى تمام مدتهم ولا تجروهم مجرى الناكثين . { إِنَّ الله
يُحِبُّ المتقين } تعليل وتنبيه على أن إتمام عهدهم من باب التقوى .[11]
هذا
الاستثناء إلى أي شيء عاد؟ فيه وجهان : الأول : قال الزجاج : إنه عائد إلى قوله :
{ بَرَاءةٌ } والتقدير { بَرَاءةٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ } إلى المشركين المعاهدين
إلا من الذين لم ينقضوا العهد . والثاني : قال صاحب «الكشاف» ، وجهه أن يكون مستثنى
من قوله : { فَسِيحُواْ فِى الأرض } لأن الكلام خطاب للمسلمين ، والتقدير : براءة من
الله ورسوله إلى الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقصوكم فأتموا إليهم عهدهم .[12]
تفسير
الرازي (7/ 458، بترقيم الشاملة آليا)
واعلم
أنه تعالى وصفهم بأمرين : أحدهما : قوله : { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ } والثاني : قوله
: { وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَداً } والأقرب أن يكون المراد من الأول أن يقدموا
على المحاربة بأنفسهم ، ومن الثاني : أن يهيجوا أقواماً آخرين وينصروهم ويرغبوهم في
الحرب . ثم قال : { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ } والمعنى أن الذين ما غادروا
من هذين الوجهين ، فأتموا إليهم عهدهم ، ولا تجعلوا الوافين كالغادرين . وقوله : {
فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ } أي أدوه إليهم تاماً كاملاً . قال ابن عباس
: بقي لحي من كنانة من عهدهم تسعة أشهر فأتم إليهم عهدهم { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين
} يعني أن قضية التقوى أن لا يسوى بين القبيلتين أو يكون المراد أن هذه الطائفة لما
أنفوا النكث ونقض العهد ، استحقوا من الله أن يصان عهدهم أيضاً عن النقض والنكث .
2.
الاستفادة
من الأية
هذا
استثناء من ضرب مدة التأجيل بأربعة أشهر، لمن له عهد مطلق ليس بمؤقت، فأجله، أربعة
أشهر، يسيح في الأرض، يذهب فيها لينجو بنفسه حيث شاء، إلا من له عهد مؤقت، فأجله إلى
مدته المضروبة التي عوهد عليها، وقد تقدمت الأحاديث: "ومن كان له عهد مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته" وذلك بشرط ألا ينقض المعاهد عهده، ولم
يظاهر على المسلمين أحدا، أي: يمالئ عليهم من سواهم، فهذا الذي يوفى له بذمته وعهده
(3) إلى مدته؛ ولهذا حرض (4) الله تعالى على الوفاء بذلك فقال: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُتَّقِينَ } أي: الموفين بعهدهم.[13]
3. الحكم الذي وجد في الأية
القول
في تأويل قوله : { إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ
شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ
إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) }
قال
أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:(وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله
بريء من المشركين ورسوله)،، إلا من عَهْدِ الذين عاهدتم من المشركين، أيها المؤمنون
(1) =(ثم لم ينقصوكم شيئا)، من عهدكم الذي عاهدتموهم =(ولم يظاهروا عليكم أحدًا)، من
عدوكم، فيعينوهم بأنفسهم وأبدانهم، ولا بسلاح ولا خيل ولا رجال (2) =(فأتموا إليهم
عهدهم إلى مدتهم)، يقول: فَفُوا لهم بعهدهم الذي عاهدتموهم عليه، (3) ولا تنصبوا لهم
حربًا إلى انقضاء أجل عهدهم الذي بينكم وبينهم =(إن الله يحب المتقين)، يقول: إن الله
يحب من اتقاه بطاعته، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. (4)
حدثنا
محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(فأتموا إليهم
عهدهم إلى مدتهم)، يقول: إلى أجلهم. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:(إلا
الذين عاهدتم من المشركين)، : أي العهد الخاص إلى الأجل المسمى =(ثم لم ينقصوكم شيئا)،
الآية.[14]
حدثنا
بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:(إلا الذين عاهدتم من المشركين
ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا)، الآية، قال: هم مشركو قريش، الذين عاهدهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم
النحر. فأمر الله نبيه أن يوفي لهم بعهدهم إلى مدتهم، ومن لا عهد له إلى انسلاخ المحرم،
ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وأمره بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا
رسول الله، وأن لا يقبل منهم إلا ذلك.
حدثني
محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال:
مدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل "براءة" أربعة أشهر، من يوم أذن
ببراءة إلى عشر من شهر ربيع الآخر، وذلك أربعة أشهر. فإن نقضَ المشركون عهدهم، وظاهروا
عدوًّا فلا عهد لهم. وإن وفوْا بعهدهم الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ولم يظاهروا عليه عدوًّا، فقد أمر أن يؤدِّي إليهم عهدهم ويفي به.[15]
المراجع
1.
تفسير
الطبري
2.
تفسير
ابن كثير
3.
تفسير
البيضاوي
4.
تفسير
الرازي
5.
تفسير
القرطبي